الأحد، 18 يناير 2015

مؤسسة فنون الثقافية/ قصة / الرغبة الأخيرة / خديجة السعدي / العراق





الرغبة الأخيرة
خديجة السعدي
في السنوات الأخيرة من عمره، كانت علب السجائر والأدوية ثوابت عالمه المريض الوحيدة. كان كلّ شيء متغيراً بالنسبة له إلا هذين الكابوسين اللذين ظلّا يلازمانه حتى آخر يوم في حياته. وهذه السيجارة اللعينة، كانت أولى رغباته وآخرها. لم يستطع أحد التفريق بينهما. فرغم ما عاناه ويعانيه بسببها، كانت مبعث فرحه اليوميّ. وفي فراش مرضه، اخترع طرقاً كثيرة للتعايش معها والاستمتاع بها، مرّة بمداعبتها بين أنامله كراقصة هيفاء تثيره كلما نظر إليها، وتارة بالتلذّذ بها بين شفتيه لأطول فترة ممكنة.
لكنه، في أيامه الأخيرة، حين ازداد مرضه شدّة، منعه الأطباء وأفراد العائلة منها. "أرجوكِ يا سلطانة،" كان يترجى زوجته، "سيجارة واحدة، واحدة فقط، فأنا لم أذق طعمها منذ أسابيع. ذاك الطبيب المخبول يريد حرماني لذّة التدخين وكأن سيجارة واحدة ستطيل عمري أو تقصّره. سيجارة واحدة بحقّ السماء..."
أخيراً، لم يستطع بشّار تحمّل ذلّ جدّه، فتناول سيجارة من علبة دخانه، أشعلها وقدّمها له: "أطفئ ظمأك يا جدّي."
ابتسم الجدّ ابتسامة عريضة وسحب سحبة طويلة بدأ رأسه بعدها يدور قليلاً. كانت الجدّة تراقب عبر الغرفة:
"انظر كيف قلّ سعالك بعد أن أقلعتَ عن التدخين اللعين،" صاحت بعصبية.
"معكِ حقّ، معك حق،" ردّ وناول ما تبقى من السيجارة لحفيده.
"أحسنت يا جدّي. لو قمت بذلك في شبابك لما عانيت الآن ما تعانيه."
"لن تموت رغبتي بالسيجارة إلا بموتي." تمتم الجدّ بينه وبين نفسه.
أشفقت الزوجة عليه، فحاولت المزاح معه وتلطيف الجو، لكنه كان متعباً، أو حزيناً، فلم يبادلها الابتسامة. أشار إليها بيده أن تدنو منه، وكأنه يريد أن يقول لها سرّاً.
لم يكن أحد ليخمّن أن السيجارة كانت رغبته قبل الأخيرة. أما الأخيرة فكانت يد سلطانة: أمسك بها، وضعها على قلبه، ثم أغمض عينيه.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق