السبت، 27 ديسمبر 2014

مؤسسة فنون الثقافية / مقال / المسرح العالمي / فيروز مخول / سوريا






,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,, المسرح العالمي
فى الذكرى الرابعة عشرة لرحيل الناقد الكبير الدكتور على الراعي، نقدم هنا هذا المقال الذى كان قد كتبه منذ نحو عشرين عاماً: نعيد قراءته وتأمل كلماته. ونعجب بتلك القيم التى يبثها عبر سطوره: هذه العلاقة الطيبة والمباشرة بين الاستاذ وطلابه والتى تمنح مساحة للحوار والجدل الراقي. هى إطلالة على الدور العظيم للفن والأدب فى حياة الأمم، ومناداة بأهمية انخراط المثقفين والمتخصصين الدراسين للأدب فى إثراء أدبنا القومي. كان الراعي، كما يقول الفنان سعد أردش، محتضناً بأبوة حانية للأجيال الصاعدة من المبدعين، مرحباً بكل جديد تطرحه الأفكار الشابة، عن يقين بأن أعظم النتائج فى النهاية هى نتاج تلاحم أفكار الأجيال المتواصلة. ومن هذا المنطلق فقد سهر على زرع ورعاية مجموعة المبادئ والقواعد والمعايير التى حكمت أزهى فترة من فترات تاريخ الثقافة فى مصر.
خواجات مزيفون. أم عرب دارسون واعون؟ بقلم العلامة علي الراعي أستاذ النقد والمسرح
قضيت خمس عشرة سنة أحاضر شباب العرب من الجنسين فى مصر والكويت فى الدراما المعاصرة. كثيراً ما يسألنى الطلبة والطالبات: لماذا تدرس الدراما العالمية فى قسم مخصص للأدب الانجليزى؟ لماذا نقرأ أعمال أبسن، وتشيخوف وستريندبرج وبيراندللو ولوركا، وكلهم من غير الانجليز؟وكنت أجيب الطلبة فى صبر أحياناً، وفى نفاد صبر أحياناً أخرى، إن الأدب - والفن عامة - لا يعرف حدوداً جغرافية، ولا يأبه بالنزعات الإقليمية، ولا ينظر إليها كحواجز بين الناس. إنه نشاط إنسانى شامل، بين الناس فى كل مكان، على اختلاف الجنس والدين واللغة والمكان والزمان، وهذا هو سر عظمته وقوته، هذا هو الذى جعله يتحدى الزمن وبطش الطغاة، وصرامة الأنظمة وتعنت السياسات الحزبية، وتزمت الإيديولوجيات المختلفة. لم يستطع الزمن أن يُغيّب فى طياته سحر هومر، ولا سخرية أريستوفان ولا حكمة ونفاذ بصر يوريبيديس. عجزت القرون عن أن تأوى فى أحشائها المظلمة ضحكات شكسبير المفعمة بالمرح، وبكاؤه الملئ بالتفجع ورغم أنف الزمن، مازالت قلوبنا تنبض مع نبضات المعرى، وتتألم لشكوى ابن الرومى، وتبتسم لخيلاء المتنبى، وتطرب لسخريات الجاحظ. لم يستطع دكتاتور واحد - على كثرة أزراره - أن يضغط زراً واحداً منها ليصنع أديباً أو ليمنع آخر من الظهور. فشلت الآنظمة جميعاً، والسياسات والإيديولوجيات فى أن تحتوى عبقرية الأديب والفنان على كره منه. بل عجز العلم نفسه - حتى فى عصر العلوم الذى نعيشه عن أن يفسر لنا لماذا يولد فرد بموهبة خارقة، ويكون أخوه الشقيق، بلا موهبة أصلاً - على اشتراك الإثنين فى الغذاء والزمان والمكان والوضع الاجتماعى والمؤثر الفكرى، ظلت للفن أرضه الخاصة تتحدى التحليل والتفسير حتى الآن، فأصبح ملجأ وملاذاً لكل من يضجر بكثرة التحليل وفرط التأويل. ولا أعلم تماماً كيف تقبل طلابى وطالباتى هذا التفسير على مدى الأعوام واختلاف الأمزجة والأمكنة. أغلب الظن أن كثرتهم قد قبلته بوصف أن هذا ما قال الأستاذ فلم يناقشوه، وربما تكون قلة منهم تقتنع به وخرجت بالصمت من لا ونعم، وربما تكون الندرة قد تبينت ما يكمن وراء التفسير من حق يدعمه التاريخ وتجارب الزمن. كانت هذه - إذن - مواجهة هادئة بينى وبين طلابى. أما الذى لم يكن هادئاً قط فهو محاولاتى الدائبة لعقد مقارنة بين مسرحيات العالم المعاصرة وبين المسرحيات العربية. هنا كان الجو يتوتر دائماً، وتبدو علامات الاحتجاج، والرفض، بل والاستنكار - وأحياناً قليلة - الاستخفاف بما يقول الأستاذ. فيم أتحدث عن المسرحيات العربية فى قسم اللغة الانجليزية، وآدابها؟ أليس المكان الوحيد لدراسة المسرحيات العربية هو قسم اللغة العربية وآدابها؟ أليس هو القسم صاحب الاختصاص؟ ولو كان مرادنا أن ندرس المسرح العربى، أكان من العسير علينا أن نلتحق بذلك القسم المختص؟ثم ينظر إلى الطلاب ليروا وقع هذه الحجج (المُفحمة) علىّ. فلعلى أتنازل عن هذا الاتجاه الخاطئ، وأنفق الوقت الإنجليزى فى الحديث عن الأدب المسرحى الإنجليزى. هنا كانت المعركة تسخن ثم تشتعل. أقول للطلاب والطالبات: إنكم تصدرون فى أرائكم هذه عن فهم خاطئ لمهمتكم وغايتكم من دراسة الآداب العالمية، وبينها الأدب الإنجليزى. فليس المقصود أن نُخرِج من بين صفوفكم خبراء فى الآداب العالمية، أو باحثين فيها أو مبدعين بها. ذلك أمر إن تم، فهو نتاج فرعى للدراسة فى هذا القسم. أما المقصود، أو الذى ينبغى أن يكون هدفاً، فهو أن نجعل منكم دارسين واعين متذوقين مرهفى الحس، وأطقماً أدبية حسنة التدريب، لتذوق الأدب العربى، ودراسته واغنائه، والإبداع فيه، بفضل ما عاينتم من نماذج عالمية يمكن إحتذاؤها، أو نقدها، أو حتى رفضها لصالح الأدب العربى. نحن لا نعلمكم الآداب العالمية لتصبحوا خواجات، فإن هذا هدف، لا هو مطلوب، ولا هو ممكن التحقيق. فسيظل العربى عربياً وستبقى رؤيته للآداب العالمية - فى كثير من نواحيها - أقل نفاذاً من مواطنى تلك الآداب، بينما لا يستطيع غير العربى أن يرى أدبه العربى بكل الوضوح والتعمق، والإعزاز، التى هى جميعا من نصيب الباحث العربى الموهوب، خاصة إذا تسلح بأساليب البحث العالمية وبكنوز الأدب العالمى. وذلك ما فعله دائماً الكبار فى أدبنا العربى. ابن المقفع المستعرب، إذ يترجم كليلة ودمنة لصالح الأدب الغربى، على سبيل المثال. أو مترجمو الآداب الهندية والفلسفة اليونانية من العرب، الذين فهموا الغرض الأساسى من دراستهم على أنها - بعد التثقيف الشخصى - نقل لنور الحضارة ونارها من ثقافة إلى ثقافة، قصد الإغناء، والتطوير، وفتح المنافذ. ماذا كان يصبح حالنا لو قنع طه حسين بدراساته فى الأدب الفرنسى وأصبح (مبرنطاً) بالفعل والعمل، وليس بقول خصومه والشانئين له؟ وماذا كان يحدث لو أن الطهطاوى قد رضى بأن يكون إمام البعثة التعليمية المصرية فى باريس، ولم ينهب كنوز الفكر والثقافة الفرنسية على أيامه، ويضعها تحت تصرف مواطنيه المصريين، والزيات، ومندور، والأخوين تيمور وزكى مبارك وخليل مطران، وعبدالرحمن شكرى، ولويس عوض ومفكرى العرب وشعرائهم فى أرجاء الوطن العربى الكبير: جبران، وابوريشة، ومارون عبود، وابوماضى، والسياب، والبياتى وعبدالسلام العجيل؟ بل ماذا كان يحدث للرواية الجزائرية لو ظل إبداع محمد ديب وكاتب يس حبيس اللغة الفرنسية التى كتب بها الأديبان كرهاً وعسراً؟وإلى هنا كان ينتهى حوارى مع الطلبة والطالبات، فننتقل مباشرة إلى (جدول الأعمال)، وهو المسرحية العالمية موضوع الدراسة، ما لم أكن أقوله لهم – لاعتبارات عدة – أن ثمة سياسات معادية للعرب تقف وراء حبس مثقفيهم فى سجون التخصص المبالغ فيه. كان يدعم هذه السياسات فى مصر الرجعية المصرية وآدابها، باعتبارهما من علامات تأخر الشعبيين الأوباش، وتتعاون مع الاستعمار البريطانى فى غرس فكرة أن من يريد أن يكون راقياً مثقفاً فعليه أن يرطن بلغة أجنبية، وأن إتقان هذه اللغة الأجنبية لا يكون إلا على حساب اللغة القومية. فبقدر ما (يبرأ) المثقف من لغة قومه وبلاده، تزيد فرص اتقانه للغة السادة، لغة التقدم: لغة العصر، وهى إذ ذاك الإنجليزية، ولا بأس مطلقاً من الجمع بينها وبين الفرنسية. لهذا نشأت أجيال من المثقفين المصريين تعرف تفاصيل الأدب الإنجليزى، ولا تكاد تعرف إلا النذر اليسير من الأدب العربى - هو ما أكرهوا إكراهاً على قراءته فى سنوات التعليم الثانوى - وهؤلاء ضاعت على أمتهم العربية فرصة الانتفاع الكامل بهم. بعضهم عمل بالتدريس، أو بالشركات الأجنبية التى حرص الإنجليز على إلحاقهم بها وبعضهم اشتغل بالصحافة مترجماً أو محرراً للأخبار الخارجية. ونحن نتبين على الفور مبلغ الخسارة التى لحقت بأمتنا فى مصر من عزل مثقفيها هؤلاء عن التيار القومى حين نذكر أن قلة منهم، بفضل الذكاء والموهبة والحس الوطنى المرهف، استطاعت أن تقطع خيوط الشبكة التى أسرت زملاءهم، وأن تخرج إلى التيار الثقافى العام، وتسبح فيه بحرية كبيرة. أولئك استطاعوا أن يقدموا للأدب العربى - الحديث خاصة - خدمات كبيرة، بفضل تمرسهم بالآداب العالمية إلى جوار إتقانهم - وأهم من هذا - حبهم للأدب العربى. وقد تخلصنا - إلى حد ما - من أثر احتواء المثقفين المصريين فى أقفاص تخصص الأدب الإنجليزى، وأخذ عدد منهم يدرك أنه لا تناقض بين دراسة أدب أجنبى وحب وخدمة الأدب القومى، وأن الأولوية ينبغى أن تكون لأدب البلاد، ترفده المعرفة الذكية بأداب العالم. غير أن ثمة اتجاهاً ضاراً أخذ يظهر فى هذه الأيام فى أقسام اللغة الإنجليزية وآدابها فى مصر وباقى أجزاء الوطن العربى، يدعو إلى تغليب الدراسات اللغوية على دراسة الأدب كأدب، وهذا الاتجاه ينادى بأن القصد من أقسام اللغة الإنجليزية هو تعليم اللغة الانجليزية فى المحل الأول، ويأتى الأدب الإنجليزى بعد ذلك فى أية مرتبة شئت، ابتداء من المرتبة الثانية إلى لا مرتبة على الإطلاق. ذلك أن بعض المتعصبين للدراسات اللغوية يرون أن لا ضرورة إطلاقاً لدراسة الأدب بحد ذاته، فإن كان ولا بد، فمن المسموح به استخدام النصوص الأدبية كشواهد لشرح قواعد اللغة وتاريخ الكلمات وأساليب النطق إلى آخره. ووجه الخطورة فى هذا الاتجاه الجديد أنه يهدم البناء الذى يحرص الأدب أن يقيمه فى نفس دراسة والمتذوق له: الإنسان الرحب الأفق، المتفتح العقل، الذى لا يقبل إلا بعد نقاش، ويقول: لماذا، قبل أن يقول نعم، إذ ذاك يتحول شكسبير - مثلاً - إلى نحو وصرف، وتخفت أو تختفى القيم الإنسانية الرفيعة التى تضمها أعماله الباقية. ومن أجل أن تتخلص من أقفاص التخصص ومن سطوة النحاة المحدثين معاً، ينبغى أن تسير فى طريقين محددين: أولهما، وأقصرهما، وأسرعهما فى إيتاء الثمار أن تدخل دراسة الأدب المقارن فى كل أقسام اللغات الحية: العربية والإنجليزية والفرنسية، على أن تكون هذه الدراسة إجبارية، إذ ذاك يعرف الطالب أن دراسته للأدب العالمى الذى اختاره لا تُقدم فى فراغ، بل أن هذا الأدب واللغة الذى كُتبت به قد تأثرت بآداب ولغات أخرى وأثرت فيها بالتالى. وحين يتبين مدى التغيير الذى أدخله الأدب العربى متمثلاً فى قصصه وحكاياته، ورواياته الخيالية وشعره على الآداب الأسبانية والفرنسية والألمانية والإنجليزية. إلخ فسيزداد معرفة بهذه الآداب ذاتها، وسيرتفع فى نظره قدر أدبه العربى، فيستطيع، أن يخدمه راضياً ومفيداً. أما الطريق الآخر، الطويل، المؤجل الثمر، فيكون فى رأيى بإدماج أقسام الآداب الحية جميعاً فى قسم كبير واحد ينقسم إلى وحدات فرعية لكل أدب على حدة، وتنسق فيه سياسة التعليم بحيث يعرف دارسو الأدب العربى أكثر بكثير مما يعرف الآن عن الأدبين الإنجليزى والفرنسى، ويتلقى طلبة هذين الأدبين قدراً أكبر من المعرفة بالأدب العربى على أن يساندها الدراسة فى الأقسام الفرعية المختلفة معرفة بالأدبين اليونانى والرومانى يوفرهما قسم الأدب الكلاسيكى الموجود الآن. إذ ذاك تنضم الجزر المنعزلة، وتتحول جميعاً إلى أرض مشتركة يستخدمها الكل فى جميع الجهات، ولا يعود الأدب العربى غريباً فى أقسام اللغات الحية الأوروبية!.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق