الثلاثاء، 21 أكتوبر 2014

مؤسسة فنون الثقافية / الميراث / قصه / للكاتبة / خديجه السعدي

ا
لميراث
لا أذكر متى حكتْ لي أمّي حكاية جدّها مع عائلته، ولا أذكر تفاصيلها التي كانت تتهرب من الحديث عنها دائماً. ظلّتْ الحكاية عالقة في زاوية من ذهني تبحثُ عن أجوبة لسنوات طويلة، وأنا أجوب في غربتي القسرية من بلد لبلد. بعد عودتي للوطن بعد سقوط النظام عام 2003، أردتُ سماع الحكاية كاملة. جلستُ إلى جانب أمّي المتعَبة متأملةً أن تعيد على مسمعي تفاصيل قد تشبع فضولي المعمّر.
"لقد انتهت الحكاية منذ سنين طويلة يا ابنتي،" قالت. "لا يمكن أن نعود إلى الوراء. لقد فات الأوان..."
"لا يا أمي،" أصرّيت كطفلة. "بل آن الأوان أن تحكي لي القصة كاملة. كيف قبلتم وأذعنتم لأمر كهذا؟ أرجوكِ، أرجوكِ..."
تنهّدتْ الأم الحنون، وبزفرة بدأت حكايتها.
كان جدّها إنساناً هادئاً متواضعاً، لكنه كان مثالياً وعزيز النفس. في يوم لن ينساه طوال ما تبقى من حياته، جاء عمّه الأكبر إلى بيته، ودون أية مقدمات قال له: "لقد قررنا حرمانك من الإرث وقطع كل علاقاتنا معك. لستَ منّا من الآن فصاعداً." واستدار وخرج دون أن ينتظر ردّة فعل ابن أخيه الذي فغر فاه مستغرباً ثم هزّ كتفيه تعبيراً عن اللامبالاة. كان هذا كل ما قاله جدّي، والد أمي، لأولاده حين سألوه عن سبب فقرهم وغنى بقية أقربائهم.
هكذا بدأ مسلسل إنكار حقوق جدّ أمي من قِبل عائلته، ودون أية مقاومة تُذكر من طرفه. سلطة المال وحكم القويّ على الضعيف. تقول أمي إن جدها لم يكترث لأقاويل عائلته وترك لهم كلّ شيء...
"لكن لماذا؟!" أسألها بانزعاج.
"وماذا كان يمكنه أن يفعل؟ كان وحيداً، وأولاده صغاراً، يحمل أفكاراً لا يفهمها عمّه. لا يستطيع المرء مخالفة قوانين الأغنياء. جلّ ما يستطيع فعله هو الرضى بالحال والاستمرار في الحياة بالطريقة التي تتوافق مع معتقداته..."
كان جدّ أمي يقول إن الدين ليس عباءة وعمامة؛ ليس طقوساً ولحية، مسبحة وسجادة. الدين هو كيف نعيش حياتنا وكيف نتعامل مع الآخرين. الدين أخلاق، رحمة، مساواة. أمّا هؤلاء الذين يدّعون التديّن، فلا يأبهون ولا يفقهون من أمور دينهم ودنياهم سوى جمع المال والمظاهر... أقوال دون أفعال. ولهذا نبذوه من العائلة، لأنّه لم يلبس العمامة مثلهم.
"ولكن كيف لم تحرّكوا ساكناً فيما بعد وتطالبوا بحقّكم في الميراث؟" قلتُ بإصرار وأنا أفكر إن كان منبع سخطي الحرمان من غنى كان ممكناً أم الإحساس بالظلم بشكل عام.
"لقد فات أوان هذه الأسئلة يا صغيرتي. لقد تجاوز عمري السبعين سنة. ماذا تريدينني أن أفعل الآن؟"
كنت أفكر في أنّ الحقوق لا تموت بموت أصحابها بل تتوارثها الأجيال، جيلاً بعد جيل، إلى أن ينال أحد الأخلاف حق أسلافه الضائع، أو ينال أخلاف الطرف الآخر جزاء عادلاً بشكل أو بآخر. حرمان جدّي من ميراثه ظلماً هو ما ورثناه عنه.
تنفّستْ أمّي بصعوبة. رأيتُ الدموع تملأ عينيها. خيّم صمت ثقيل وأنا أتأمل وجهها الذي يحمل ثقل السنين وعذابها. كيف ابتلعتْ أمّي كل هذه الآلام طوال كلّ هذه السنين؟ وكيف سكت الجدّ والأبّ والابن والعائلة بأكملها عن حقوقهم؟ وأقاطع نفسي: لكن من أين جاء هذا "الحق"؟ من قال إن الميراث حقّ؟ أليس عرفاً اجتماعياً يساهم في تراكم الثروة وتوسيع الهوّة بين الأغنياء والفقراء من جيل لآخر؟
لم أبح بأيّ من أسئلتي لأمي التي لم تعد لديها رغبة في إتمام الحكاية. مسحتْ دمعة على خدّها الأيسر وقالت:
"لقد فقدنا الكثير بسببهم يا ابنتي، لكنّنا حصلنا على أشياء أثمن بالمقابل. ربما اغتصبوا حقّنا في حياة أيسر وأكثر رفاهاً، لكنّهم لم يستطيعوا أن يسلبونا حبّنا للحياة وللآخرين."
"ربما كان هذا سرّ الحكاية،" فكرتُ. "وربما كان هذا الميراث أثمن من بيوت وأموال لم ننعم بها بسبب عمامة."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق